يقول الحق سبحانه وتعالي
( آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لانفرق بين أحد
من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.لايكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت
وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولاتحمل علينا إصرا كما حملته علي
الذين من قبلنا ربنا ولاتحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا
علي القوم الكافرين )
حقا إنهما أيتان من كنوز الرحمن
الآيتان الأخيرتان من سورة البقرة لهما فضل عظيم, فقد ثبت في كتب السنة النبوية المطهرة أن
الرسول صلي الله عليه وسلم قال فيما رواه عنه الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه
من قرأ الآيتين من أخر سورة البقرة كفتاه وفي فضلهما ايضا ورد عن ابي ذر رضي الله عنه أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال: أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش, وفي رواية
أخري لهذا الحديث يقول فيها: أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي
قبلي.وجاء في حديث آخر أن هاتين الآيتين الكريمتين كانتا من المنح الإلهية العظيمة التي جادت
بها المشيئة الإلهية علي الرسول الأمين تكريما له ليلة الإسراء والمعراج, فقد اعطاه الله ثلاثة اشياء
أولها الصلوات الخمس, وثانيها خواتيم سورة البقرة, وثالثها ان الله لا يغفر الشرك ويغفر ما دون
ذلك لأمة محمد عليه الصلاة والسلام.وكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يتلو خواتيم سورة
البقرة قبل أن ينام وكان يقرأ معها أية الكرسي.وورد عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما ا
نه قال: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا قرأ خواتيم سورة البقرة وآية الكرسي ضحك وقال
إنها كنز من الرحمن تحت العرش.وقد جاء في صحيح مسلم أن ملكا أتي النبي صلي الله عليه
وسلم وقال له: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب( أي سورة الفاتحة)
وخواتيم سورة البقرة, لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته.
وهاتان الآيتان الكريمتان هما الأيتان رقما285 و286 من سورة البقرة
ولهذا كانت الآيتان من آخر سورة البقرة -لما تضمنتا هذا الأصل- لهما شأن عظيم ليس لغيرهما]
أي: من الآيات في كتاب الله، وذلك لأن الله يقول فيهما: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285]، فالذي
أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو هذه الأصول، وأصلها جميعاً يرجع إلى ما أنزل على
الرسول صلى الله عليه وسلم، فنؤمن به ونطيع: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا [البقرة:285]
أي: إذعان وانقياد مطلق، وطاعة لله سبحانه وتعالى، لا كما قال أهل الكتاب: سمعنا وعصينا.
ثم يطلبون المغفرة من الله: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا [البقرة:285]، لأن العبد مهما سمع وأطاع وانقاد فعبادته
أقل من أن تكافئ أو توازي نعم الله سبحانه وتعالى وفضله عليه، فالفضل له أولاً وآخراً سبحانه
وتعالى فهو الذي هداه، وهو الذي وفقه، ومهما عبد العبد ربه سبحانه وتعالى فالفضل له؛ لأن العبد
مقصر دائماً، ولذلك فإنه يستغفر الله من التقصير.
قوله: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، يعني: الإيمان باليوم الآخر، فإليه المرجع، وإليه المآل سبحانه وتعالى.
فيذكر الشارح أن لهاتين الآيتين شأناً عظيماً لتضمنهما أصول الدين، وسوف نفصل القول في ذلك إن شاء الله.
معنى قوله عليه السلام: (من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)
قال المصنف: [ففي الصحيحين عن أبي مسعود عقبة بن عمرو عن أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: {من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه }] وهي قوله تعالى: آمَنَ
الرَّسُولُ ... [البقرة:285] إلى آخر سورة البقرة، وليس كما ذكر البعض أن الآية الأخيرة هي عبارة عن آيتين، فالآيتان تبتدئان من قوله: (آمَنَ الرَّسُولُ) وتنتهي بقوله: (الْكَافِرِينَ).
ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى سبعة أقوال في معنى (كفتاه) في فتح الباري عند شرحه
لكتاب فضائل القرآن:
القول الأول: بمعنى أجزأتاه عن قيام الليل، فلو أنه قرأهما قبل نومه ولم يستطع تلك الليلة أن يقوم
الليل فقد كفتاه عن ذلك.
القول الثاني: أنهما كفتاه من قراءة القرآن مطلقاً، سواء كان يقرأه في الصلاة أو في غير الصلاة.
القول الثالث: أنهما كفتاه فيما يتعلق بالاعتقاد، فكل العقيدة موجودة ومتضمنة في هاتين الآيتين،
لأنهما اشتملتا على أمور الإيمان وأعماله وأصوله جميعاً، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه
ورسله واليوم الآخر. وهذا القول هو ما ذكر المصنف رحمه الله تعالى أنه المقصود لذكر هاتين
الآيتين، فيكفيك في باب الاعتقاد -المجمل لا المفصل- أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله،
واليوم الآخر، ثم تفصيل ذلك يعلم ويؤخذ من أدلته.
القول الرابع: أنهما كفتاه من كل شر، فلو قرأ في ليلته هاتين الآيتين لكفتاه من كل شر، وينام ليلته
تلك آمناً مطمئناً بإذن الله.
القول الخامس: وهو أخص مما قبله، أنه بمعنى كفتاه شر الشيطان، فمن قرأهما فقد كفي شر
الشيطان اللعين.
القول السادس: أنهما كفتاه شر الجن والإنس.
القول السابع: بمعنى أنهما تغنيانه عن طلب الأجر فيما سواهما، فينال بقراءة هاتين الآيتين من
الثواب والأجر ما يغنيه عن طلب الأجر والثواب فيما سواهما.
والثلاثة الأقوال: الرابع والخامس والسادس متقاربة، يعني: كفتاه شر كل شيء: شر الشيطان
وشر الجن والإنس، فأمكن أن نجعلها خمسة أقوال.